الى كل باحث عن الحق من غير المسلمين..تعرف على الاسلام
صفحة 1 من اصل 1
الى كل باحث عن الحق من غير المسلمين..تعرف على الاسلام
تعَرَّف على
الإســلام
مقدمه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله، وبعد
فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، حيث أرسل الله رسله وأنزل كتبه بدعوة جوهرها واحد، وهي الدعوة إلى توحيده وعبادته والتمسك بطيب الاخلاق وحسن السلوك.
ولما بعث الله محمداً أمره بما أمر به إخوانه من الانبياء، وأرسله إلى الناس أجمعين، وارتضى دينه للعالمين ديناً، فكمل به الدين، وتم ببعثته الفضل العميم.
ولأن الإسلام دين الله الخاتم، فقد امتاز بخصائص ذاتية جعلته في الماضي وتجعله اليوم أسرع الأديان انتشاراً على وجه الأرض، فقد غطى الإسلام نصف الأرض بحضارته، وتسابقت الأمم إلى الدخول فيه لما قرأت فيه من توافق مع الفطرة ومواءمة مع العقول، وسماحة في المعاملة، ويسر في المعتقد.
لكن هذا النجاح الذي حققه المسلمون بإسلامهم دفع البعض للإساءة إلى الإسلام ، فما من دين ولا نحلة أصيب بما تعرض له الإسلام العظيم من تشويه أسهمت به جيوش من المفكرين الذين تعمدوا أحياناً الإساءة إليه بطمس حقائقه وإلصاق النقائص به زوراً وبهتاناً، بينما أخطأوا في أحيان أخر في فهمه، فانحرفوا بعيداً عن حقائقه وأصوله.
ولسنا نبرئ أنفسنا نحن المسلمين من الإساءة إلى ديننا بتصرفات بعضنا التي يبرأ منها الإسلام الذي أضحى أسيراً بين مطرقة أعدائه وسندان جهل محيط ببعض أبنائه.
والواجب على العاقل الحصيف إذا ما أراد التعرف على دين ما؛ النظر في أصوله بعيداً عن تصرفات أبنائه واتهامات أعدائه، فما من دين ولا فكر إلا ويوجد خطأ وجنوح في بعض المنتسبين إليه، من غير أن يجنح أحد إلى تعميم الأحكام، فالحكم على الهيئات فضلاً عن الأديان إنما يرجع فيه إلى الأصول، لا إلى السلوك الأرعن أو الخاطئ من بعض الأتباع، لذا كان من الواجب أن نفهم الإسلام كما هو، كما أنزله الله بعيداً عن الأحكام المسبقة المثقلة بأوهام الاستشراق وإفكه.
وإذا أردنا التعرف على الإسلام عن طريق أصوله؛ فإنا لن نجد مدخلاً أفضل من تدبر الحوار الذي جرى بين جبريل عليه السلام أمين الوحي من أهل السماء، والنبي محمدأمين الوحي من أهل الأرض، حيث أتى جبريل النبي فسأله عن مراتب الدين، ليُسمع الصحابة إجابته، فيفقهوا دينهم، قال جبريل: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله : ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقت. قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه!.
قال جبريل: فأخبرني عن الإيمان؟ فأجابه : ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال: صدقت.
قال جبريل: فأخبرني عن الإحسان؟ فقال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).([1])
فهذه أصول الإسلام بإجمال، فأي شيء يعاب منها؟
ولسوف نشرع في التعريف والتفصيل في شرح هذه الأصول ، لنقف على الأبعاد الأخلاقية والحكم الإلهية في تأسيس الإسلام والإيمان على هذه القواعد.
كما سنعرض بالشرح والبيان لكشف حقيقة ما يردده البعض عن اتهام الإسلام بالإرهاب والحض على الكراهية، وبأنه ظلم المرأة وعطل طاقتها، فنجيب في هذا الصدد عن بعض ما يثار عن الإسلام، ونهديه لمن أراد التعرف على الإسلام عن طريق أصوله ومبادئه.
ونتقدم بهذه الرسالة التي تبتغي منها التعريف بالحق الذي انشرحت به صدورنا، وارتضته عقولنا، فهي دعوة للتامل في تعاليم الإسلام ثم اللحاق برهط المؤمنين الفائزين عند الله ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ^ جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ﴾(البينة: 7-.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
([1]) أخرجه البخاري ح (50)، ومسلم ح (9).
د. منقذ بن محمود السقار
فهرس الموضوعات
الإسلام وأركانه
الركن الأول: الشهادة لله بالتوحيد ولرسوله محمد بالرسالة
الركن الثاني: إقام الصلاة
الركن الثالث: إيتاء الزكاة
الركن الرابع: صوم رمضان
الركن الخامس: حج بيت الله الحرام
مفهوم العبادة في الإسلام
العبادة والأخلاق
مراتب الأحكام التكليفية
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها
أولاً : خصائص الشريعة الإسلامية
أ. ربانية المصدر والغاية
ب. العدل والمساواة
ج. الشمول والتوازن
د. المثالية الواقعية
ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية
أ. حفظ الدين
ب. حفظ النفس الإنسانية
ج. حفظ العقل
د. حفظ النسل
هـ.حفظ المال
أركان الإيمان
الإيمان بالملائكة
الإيمان بالكتب
الإيمان بالأنبياء
القضاء والقدر
اليوم الآخر
ردود على أباطيل
أولاً : الإسلام والمرأة
ثانياً : الإسلام والإرهاب
ثالثاً : الإسلام والتعامل مع الآخر
رابعاً : المسلمون والتحديات المعاصرة
المصادر والمراجع
.........................................................................................................................................
الإســـــــــــــلام
وقبل الشروع في تبيان حقائق الإسلام وأركانه؛ فإن من الواجب أن نتحدث عن اسم (الإسلام).
لفظة الإسلام في اللغة مصدره أسلم يسلم، ومنه السلامة والسلام.
وحين نتحدث في هذه الدراسة عن الإسلام، فإنا نعني الدين الذي أنزله على نبيه محمد ، وسماه بذلك لما تضمنه من الدعوة إلى الاستسلام لله وحده والانقياد والخضوع بالطاعة .
وهذا الاسم لا يستمد اسمه من اسم نبي أو وطن، بل مشتق من خصيصته الأساس التي لم تفارقه في طور من أطواره طوال تاريخ الإنسانية، فهو الاستسلام لله تبارك وتعالى وحده دون سواه.
والإسلام هو دين الله الذي أنزله على جميع الأنبياء، فقد دعوا جميعاً إلى أصول واحدة، تقوم على توحيد الله وتعظيمه وعبادته والاستسلام لأوامره والخضوع لأحكامه والدعوة إلى حراسة فضائل الأخلاق والارتقاء بالسلوك الإنساني.
وأما ما نجده اليوم من تباعد واختلاف بين أتباع الأديان؛ فسببه اندراس الحق وما مرج في رسالات الله السابقة من الباطل.
وقد أطلق الله هذا الاسم الشريف (الإسلام) على المؤمنين في كل حين، كما قال تعالى: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل﴾(الحج: 78)، لأن المسلم - المؤمن بأي نبي من أنبياء الله - يمتثل حقيقة الإسلام، فيستسلم لله، وينقاد له بالطاعة، ويقف عند حدوده وشرائعه.
فأبو الأنبياء نوح عليه السلام يقول لقومه: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾(يونس: 72).
وما فتئ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام يدعوان الله أن يجعلهما من المسلمين:﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمةً مسلمةً لك﴾(البقرة: 128).
وقبيل وفاة يعقوب عليه السلام جمع أبناءه، وأوصاهم بالاستمساك بملة إبراهيم الحنيف المسلم ﴿إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ^ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ^ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون﴾ (البقرة:131- 133).
كما طلب موسى عليه السلام من قومه الإذعان لمقتضيات الإسلام الذي دخلوا فيه، فقال: ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ (يونس : 84)، فاستجاب لندائه سحرة فرعون وقالوا: ﴿ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين﴾(الأعراف: 126).
وبمثل هذا دعا يوسف عليه السلام ربه حين طلب من الله أن يميته ويحشره مع المسلمين الصالحين: ﴿توفني مسلماً وألحقني بالصالحين﴾ (يوسف: 101).
ولما دخلت ملكة سبأ بلاط سليمان، ورأت علامات نبوته؛ نادت بنداء الإيمان فقالت: ﴿رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين﴾(النمل: 44).
وقد أوضح خاتم النبيين محمدوحدة دين الأنبياء فقال: ((أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)).([1])
وهكذا فإن دين الأنبياء جميعاً واحد، بني على أساس واحد يدعو إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة، والاستسلام لأوامره، فهو الإسلام دين الله تعالى: ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾(آل عمران: 19)، وهو الدين الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ (آل عمران: 85).
وقد صدق الله إذ قال لنبيه ﴿قل ما كنت بدعاً من الرسل﴾(الأحقاف: 9) فأصول جميع ما أتى به النبي قد سبقه إلى الإتيان بها إخوانه من الأنبياء ﴿إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبوراً﴾(النساء: 163).
([1])أخرجه البخاري ح (3443)،
والإخوة لعَلات هم الإخوة من أب واحد، وأمهاتهم مختلفات.
.........................................................................................................................................
أركان الإسلام
إن الإسلام بنيان كبير يشمل الحياة الإنسانية برُمتِّها، وهو يقوم على أركان خمسة، ويوضحها النبي بقوله: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).([1])
وسوف نمضي سراعاً مع هذه الأركان ومقاصدها، ونتجاوز تفصيلاتها وأحكامها التي يمكن للقارئ أن يطلع عليها في مظانها من كتب التوحيد والفقه.
الركن الأول
الشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله محمدبالرسالة
أولاً : الشهادة لله بالتوحيد
إن أهم مسألة توافق الأنبياء على الدعوة إليها وتعريف الناس بها؛ هي الشهادة لله رب العالمين بالوحدانية، والتعريف بصفات الإله العظيم الذي أبدع الكون وخلقه على هذا النسق المذهل العجيب، ومن ثم التأكيد على استحقاقه وحده للعبادة دون سواه.
وبداية؛ فإن مسألة إثبات وجود الله لم تشغل حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، ذلك أنها قضية بدهية وحقيقة يجدها المسلم وغيره في أعماق كيانه، فكل شيء في هذا الكون المحيط بنا يدعونا – ضرورة - للاعتقاد الجازم بوجود خالق حكيم مدبر متصف بصفات الكمال، فكل مخلوق حولنا هو في حقيقته شهادة لله على وجوده، بل على عظمته وكماله.
إن البشرية لم تنكر يوماً وجود هذا الإله -وإن اختلفت في تسميته ووصفه - ، فقد اتفقت معتقداتها على وجود خالق مبدع للكون، سماه البعض بواجب الوجود الذي أوجد هذه الممكنات جميعاً.
وحتى ما يسمى بالمذاهب المادية الإلحادية هي في حقيقتها لا تنكر وجود هذه القوة الإلهية التي نسجت الكون وفق قوانين محكمة، بيد أنها هربت من الاسم الذي تدعيه الكنيسة لهذه القوة العظيمة (الله)، ونسبتها إلى تسمية مبتدعة تفتقر إلى الوضوح (الطبيعة وقوانينها)، فاسم الطبيعة لا يدل على شيء محدد، إذ لا يمكن أن يفهم منه أن الإنسان الأول خلق نفسه وهو أحد مكونات الطبيعة، ولا أن ما نراه من بحار زاخرة قد أبدعت نفسها في زمن ما، بينما عمدت الطيور والحيوانات إلى إنتاج الأجناس الحيوانية الأولى، بل وحتى المخلوقات الأبسط كالبكتيريا لا تستطيع أن تهب نفسها وقود الحياة الذي يدبُّ فيها.
إن أحداً لا يخالف في أن هذا الكون من خلق وإبداع خالق عظيم حكيم، هو ربنا ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى{1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى{2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى{3}﴾ (الأعلى: 1-3)، ولو صدقوا في تسميته لأسموه خالق الطبيعة ومدبر شؤونها ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ{36} أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ{37}﴾ (الطور: 35-37).
ولما سمع الصحابي جبير بن مطعم هذه الآية قال: (كاد قلبي أن يطير).([2])
إن الإلحاد المتمثل في إنكار الخالق شذوذ يستبشعه العقل البشري وتأباه الفطرة السوية، فما الإنسان بخالق نفسه، وإذا كان الإنسان الذي يتميز عن كل الموجودات بما يمتاز به من العقل والإرادة والتسخير عاجزاً عن خلق نفسه؛ فغيره من المخلوقات أعجز، لذا فلا مناص من التسليم بوجود الإله العظيم ، ففي كل زاوية من زوايا الكون آية تدل على وجوده، لا بل تشهد له بالكمال والجلال والعظمة.
وأهم ما توافق الأنبياء على الدعوة إليه؛ وحدانية الله وإفراده بالعباده دون سواه، فهو جوهر رسالاتهم جميعاً ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{25}﴾(الأنبياء: 25).
وسجل القرآن الكريم مضمون هذه الدعوة على لسان عدد من الأنبياء، فهاهم رسل الله - نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم - يقولون بلسان واحد:﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ{23}( المؤمنون: 23)،
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ{50}﴿ (هود: 50،،﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{85} (الأعراف: 85).
وكما دعا الأنبياء إلى توحيد الله الواحد؛ فإنهم حذروا أقوامهم من الشرك - سواء أكان المعبود مع الله بشراً أم حجراً أم حيواناً أم ملاكاً - لأن الله أوحى إليهم جميعاً بذلك ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ{66} ﴾(الزمر: 65-66).
وكان المسيح عليه السلام من هؤلاء الأنبياء الذين حذروا أقوامهم من الشرك: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73}﴾(المائدة: 72-73).
ولما كانت معرفة أسماء الله وصفاته تعجز عن التنبؤ بها العقول وتحار في إدراكها الأفهام وتختلف؛ فإن الله تبارك وتعالى - بمنِّه وفضله - خلّص البشرية من حيرتها، فعرّفها بأسمائه وصفاته حين بعث بوحيه أنبياءه وأنزل على العالمين كتبه، فكان أهم ما حملته النبوات إلى الإنسانية تعريفها بخالقها.
وقد ذكر الله في كتابه الأخير، القرآن الكريم، أن له تبارك وتعالى أسماء حسنى، غاية في الحسن والجلال والكمال ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى{8﴾ (طه: ، وهي تدل جميعها على ذات واحدة يدعوها المسلم في صلاته ودعائه ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{180}﴾ (الأعراف: 180).
ومن أسماء الله الحسنى ما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{24}﴾ (الحشر: 22-24).
وهذه الأسماء الإلهية مع دلالتها على الذات الإلهية فإنها تثبت لله تبارك وتعالى غاية ما تدل عليه من أوصاف الكمال والتنزيه ، فهو الملِك الذي لا نِدَّ له في ملكه، وهو الحكيم الذي لا يُدانى في حكمته، إنه الله العظيم الذي جلَّ عن النظير والمثيل والشبيه ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11}﴾ (الشورى: 11)، وهو الله الواحد الأحد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} ﴾ (سورة الإخلاص)، ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{74}﴾ (النحل: 74).
إن الإيمان بالله الموصوف بصفات العظمة والكمال يهذب السلوك الإنساني، حين يستحضر معية الرب له، فيعلم باطلاع الرب عليه، وهو العليم المحيط القادر على كل شيء، فيستحي المؤمن به أن يراه ربه ومولاه على حال المعصية؛ وهو القوي ذو البأس والبطش الشديد، وأولى منه أن نعبده ونسعى في مراضيه، لنفوز بجنته وعظيم جزاء الرب العفو الغفور الكريم الودود.
وهكذا فالمؤمن يستقيم سلوكه خوفاً من الله وعقابه، وطمعاً في ثوابه وجزائه، وهذا هو حال المؤمنين الذين امتدحهم ربهم ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ{90}﴾ (الأنبياء: 90).
إن المسلم حين يؤمن بالله الواحد الخالق الرازق الذي بيده مقادير الأمور؛ فإنه يلجأ إليه وحده في السراء والضراء، في الصغير من أموره والكبير، ليقينه بمعية الله تعالى للمؤمنين وقربه منهم وإطلاعه على سرائرهم وأعمالهم، وأنه تعالى وحده القدير الذي بيده مقاليد الأمور﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{82} فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{83}﴾ (يس: 82-83)، وهو تبارك وتعالى الذي ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{12}﴾ (الشورى: 12).
فإذا نظر المرء إلى ما أولاه الله من نعمه وآلائه التي لا تحصى؛ فإنه يفيض قلبه بمحبته ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ{165} ﴾ (البقرة: 165)، وكيف لا يحبه، والله العظيم قد سبق فأحب عباده المؤمنين الطائعين ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (البقرة: 195)، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222) ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ{146}﴾ (آل عمران: 146) ﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ{13} وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ{14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ{15}﴾ (البروج: 13-14-15).
وهذه المحبة لله تجعل المسلم معلق القلب بالله، يرجو رضاه، ومن أعظم ما يتطلع إليه المؤمن نوال الجنة دار الخلود التي أعدها الله لمن أحبه من عباده ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{17}﴾ (السجدة: 17).
ومحبة المسلم لربه تجعله يمتنع عن كل يغضب الرب الذي يحبه ، فيكره ما كرهه محبوبه، والله لا يكره ولا يمقت إلا السيء من القول والعمل والخلق ﴿وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً{107}﴾ (النساء: 107) ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (المائدة: 64) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{87}﴾ (المائدة: 87).
----------------------
ثانياً: الشهادة بأن محمداً رسول الله
وحتى تقوم حجة الله على خلقه أرسل الله الرسل، وختمهم بمحمد ، وجعله رسوله إلى العالمين ﴿ وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً ﴾ (سبأ: 28)، فهي مزيته على سائر إخوانه من الأنبياء ((كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)).([1])
والنبي هومحمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، ولد يتيماً بمكة المكرمة عام 571م، ونشأ فيها، وحين بلغ الأربعين من العمر آتاه الله النبوة، حين نزل عليه الملاك جبريل بالوحي وهو في غار حراء شرق مكة المكرمة، فدعا قومه إلى الإسلام، فآمن به رهط قليل، وامتنع عن الإيمان به سادة قبيلته (قريش) الذين خافوا من ذهاب زعامتهم وزوال امتيازاتهم، فكذبوه وآذوه، وقتلوا بعضاً من أصحابه وعذبوهم بأشد أنواع النكال والعذاب.
فهاجر النبي والمؤمنون معه إلى يثرب (المدينة المنورة)، وأقام فيها المجتمع الإسلامي الممتثل بهدي الله، وكان أول ما صنعه النبي فيها أن بنى مسجده فيها وآخى بين المسلمين بآصرة العقيدة على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ثم عقد مع يهود المدينة معاهدة للتعايشِ المشترك الآمن فيها والتعاضد على حماية المدينة.
وفي المدينة المنورة دعا النبي العرب والعجم إلى الإيمان به، فأرسل الرسل إلى ملوك الأرض وحكامها يشرح لهم مبادئ دينهم، فآمن به بعضهم، وناوأه غيرهم، وأرسلوا إليه الجيوش، فقاتل من عاداه وأعاق دعوته، حتى نصره الله بنصره، ولم يغادر النبي الدنيا عام 633م حتى أقر الله عينيه بانتشار الإسلام في سائر الجزيرة العربية.
وقد أيد الله النبيَّ بما يشهد على نبوته من دلائل وبراهين، كما أُيد بذلك من سبقه من إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وخصه الله عنهم بدليل ساطع يدوم بدوام رسالته ، فلا تنقضي دلالته بتقادم الأزمان، ولا تبلى بتصرم الأيام، وهو القرآن العظيم، الكتاب المعجِز الذي بهر العالمين، وعجز عن الإتيان بمثله الأولون، ولن يأتي بسورة من مثله الآخرون ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً﴾ (الإسراء: 88) ، يقول : ((ما من الأنبياء من نبي، إلا قد أُعطي من الآيات، ما مثلٌه آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحياً أَوحى اللهُ إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة)).([2])
فقد حوى القرآن من العلوم ما حير بأسبقيته وعمقه العلماء، كيف لا وقد أنزله الله العليم بكل شيء ﴿ لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً﴾ (النساء: 166).
فقد سبق القرآن العلم الحديث إلى وصف نشأة الخلق في الماضي السحيق، حين أشار إلى ما يسميه العلماء اليوم بنظرية الانفجار الكبير ( bangBig)، فقال تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ﴾ (فصلت: 11)، وقال تعالى: ﴿أولم يرَ الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي أفلا يؤمنون﴾ (الأنبياء: 30).
كما تحدث القرآن عن اتساع الكون وتمدده في قوله تعالى: ﴿ والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون﴾ (الذاريات: 47)، وذكر دوران الشمس والقمر والأرض في أفلاك مستديرة ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ^ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ^ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون﴾ (سورة يس: 38-40)، فهذه الأخبار وغيرها علوم دقيقة لم تعرفها البشرية قبل ولا بعد إلا في أواسط القرن المنصرم.
ومما يبهر العقول من أخبار القرآن التي سبق فيها العلم الحديث؛ إخباره بمراحل تطور الجنين في بطن أمه وصور تخلقه:﴿ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغة مخلقةٍ وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج﴾(الحج: 5).
إن هذا الوصف الدقيق لمراحل الجنين أذهل البرفسور مارشال جونسون رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، فقال: "إنني كعالم أستطيع فقط أن أتعامل مع أشياء أستطيع أن أراها بالتحديد، أستطيع أن أفهم علم الأجنة وتطور علم الأحياء، أستطيع أن أفهم الكلمات التي تترجم لي من القرآن .. إنني لا أرى شيئاً، لا أرى سبباً، لا أرى دليلاً على حقيقة تفند مفهوم هذا الفرد محمد [ ] الذي لابُد وأنه يتلقى هذه المعلومات من مكان ما، ولذلك إنني لا أرى شيئاً يتضارب مع مفهوم: أن التدخل الإلهي كان مشمولاً فيما كان باستطاعته أن يبلغه".
ويضيف البرفسور كيـث ل مور مؤلف الكتاب الشهير "أطوار خلق الإنسان" ( The Developing Human) الذي يعتبر مرجعاً معتمداً في كليات الطب العالمية: "يتضح لي أن هذه الأدلة حتماً جاءت لمحمد من عند الله، لأن كل هذه المعلومات لم تكشف إلا حديثاً وبعد قرون عدة، وهذا يثبت لي أن محمداً رسول الله".([3])
﴿ قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً﴾ (الفرقان: 6).
وهكذا فإن هذه الأخبار الغيبية العلمية - وغيرها مما يطول الحديث بذكره - دليل الله الساطع على نبوة النبي ، فمثل هذه العلوم يستحيل تحصيلها في تلك الأزمنة ، وخاصة من رجل أميّ نشأ في بيئة جاهلة﴿ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد﴾(سبأ: 6).
ومما يشهد له بالنبوة ما أوتيه من حسن سيرة وخلق عظيم ، فقد وصفه ربه تبارك وتعالى: ﴿وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ﴾ (القلم: 4)، وقد غلب لقبه (الصادق الأمين) على اسمه، فصار علماً عليه بين أهل مكة، لذا قال ملكُ الروم هرقل لأبي سفيان عدو النبي حينذاك: "أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله .. يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف .. فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه لتجشمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه".([4])
إن مدعيي النبوة إنما ينتحلونها سعياً وراء الكسب الدنيوي الرخيص، سواء أكان هذا الكسب مالاً يسابقون إلى جمعه ليستمتعوا به أو ليورثوه إلى أهليهم من بعدهم، أم كان جاهاً بين الناس يرفع من قدرهم، فيشار لهم بالبنان، ويوسع لهم في المجالس....
فهل كان النبي من هذا الصنف أو ذاك؟
إن نظرة سريعة على سمته تكشف لنا ما كان عليه النبي محمد من تواضع وزهد في الدنيا جمعهما النبي ، فأوضح خلالهما نبل أخلاقه وطهر سلوكه، بل ودلل على نبوته ورسالته.
ومن زهده أنه: (ما ترك عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا أمَة ولا شيئاً؛ إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وأرضاً جعلها صدقة).([5])
وهذه الأرض هي أرض فدك التي منعها خليفة النبي أبو بكر الصديق من ورثته، وقال لهم: إن رسول الله قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة))، وأضاف الصديق: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".([6])
إن الذي تركه النبي ليس ميراثاً يغتنون به من بعده، بل دَيْناً يؤدونه من بعده، فقد مات ، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير.([7])
لقد كان يحذر أن يغادر الدنيا وقد أخذ منها مغنماً ، إذ تذكر زوجته عائشة رضي الله عنها أنه كان في بيتها بعضُ قطعٍ من ذهب، فقال لها رسول الله : ((ما فعلتْ الذهبُ .. ما ظن محمد بالله لو لقي الله عز وجل وهذه عنده؟ أنفقيها)).([8])
وليس تعففه عن شهوة الجاه بأقل من تعففه عن شهوة المال، فقد قال له رجل: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)).([9])
وكان يمقت كل مظاهر الكِبْر والترفع على الناس، ومنه كراهيته أن يقوم له أصحابُه إذا دخل المجلس، يقول صاحبه أنس بن مالك: (ما كان شخصٌ أحبَّ إليهم من رسول الله ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِما يعلمون من كراهيته لذلك).([10])
إنه رسول تتلألأ عليه صفات الكمال الإنساني، أتاه رجل فجعلت فرائصُه ترْعَد، فقال له : ((هون عليك فانى لست بملِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ تأكل القديد)). ([11])
وتحكي زوجه عائشة رضي الله عنها عن حاله داخل بيته، فتكشف لنا أن تواضعه ليس خلقاً يتزين به أمام الناس، بل خَلَّة شريفة لم تفارقه، فقد سُئلت : ما كان يصنع في بيته؟ فقالت: (كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية: (كان بشراً من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلِب شاته، ويخدِمُ نفسَه).([12])
وأما صاحبه ابن مسعود، فيحكي عن تناوب النبي على الراحلة - وهو منطلق إلى بدر – مع اثنين من أصحابه، وكانا يودان لو بقي النبي على الراحلة، وأنهما يمشيان عنه، لكنه كان يقول لهما: ((ما أنتما بأقوى مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكُما)). ([13])
وهنا نسأل: ماذا أفاده دعواه النبوة من متاع الدنيا؟ أفهكذا يصنع الأدعياء؟!
وإن من دلائل نبوته ما آتاه الله من المعجزات الحسية التي خرق الله فيها لنبيه نواميس الكون إظهاراً لنبوته، وقد فاقت هذه المعجزات في عددها الألف، منها أن الله أطعم ببركته يوم الخندق زهاء ألف رجل من بهيمة واحدة وجِراب فيه صاعٌ من شعير لا يربو وزنه على ثلاث كيلوات.([14])
كما تفجر الماء من بين أصابعه، حتى سقى الله من يديه الجموع الكثيرة من أصحابه.([15])
وشفى الله على يديه المرضى، ومنهم محمد بن حاطب، فقد انكفأ على ذراعه قدر ماء يغلي، فتفل النبي في فيه، ومسح على رأسه، ودعا له، فقام صحيحاً ما به بأس ولا علة([16]) ، وكذلك مسح على رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري لما كُسرت، فقام من بين يديه وقد شفيت.([17])
ومما يشهد بالنبوة لمحمد بشارة الكتب السابقة به، فهذه الكتب رغم ما تعرضت له من تغيير وتبديل؛ فإنها ما تزال تحمل شهادات صادقة تدل على نبوة النبي محمد ، ومن ذلك بشارة النبيين موسى وحبقوق به حين بشرا بنبي قدوس طاهر يخرج من بلاد فاران، ففي سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل قبيل وفاته: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران" (التثنية 33/2)، فقد أخبرهم عليه السلام بأنه كما جاءت رسالة الله إليه على جبل الطور في سيناء، فإن النبوة ستشرق من جبل سعير في وسط فلسطين، وذلك بنبوة عيسى عليه السلام، ثم ستتلألأ النبوة من فوق جبل فاران بنبي عظيم يخرج فيها.
وأكد سفر النبي حبقوق البشارةَ بالنبي المبعوث في فاران، فقال: "والقدوس من جبل فاران، جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه" (حبقوق 3/3)، فمن هو هذا العبد الطاهر ذو الهيبة الذي يخرج من فاران، وتمتلئ الأرض من تسبيحه وتسبيح أتباعه؟ وأين هي فاران التي تلألأت النبوة على جبلها؟
وحتى لا نتيه بعيداً نذكر أن اسم فاران تستخدمه التوراة في حديثها عن مكة المكرمة، فقد جاء في سفر التكوين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وتربى في برية فاران، يقول السِّفر عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر .. وسكن في برية فاران " (التكوين 21/21)، ففاران هي الحجاز التي لا تختلف المصادر التاريخية على نشأة إسماعيل في ربوعها.
وبهذا وأمثاله قامت حجة الله على خلقه في نبوة محمد .
والإقرار بنبوته يستلزم من المسلم الاعتراف باطناً وظاهراً أنه عبد الله ورسوله إلى الناس كافة، والعمل بمقتضى ذلك، بطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شرع، ﴿وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً ^ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً﴾ (النساء: 79-80)، وقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً﴾ (النساء: 59).
ومن مقتضيات الإيمان به التأسي بهديه وسلوكه وأخلاقه ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾ (الأحزاب: 21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
الركن الثاني: إقام الصلاة
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين وركنه الركين.
وقد فرضها الله عز وجل على المسلمين، ومنها ما شرع وجوباً، وهو الصلوات الخمس، فهي أول حق الله على عباده، ومنها ما يؤديه المسلم تطوعاً وتحبباً إلى الله الذي خلقه وأنعم عليه بآلائه التي لا تحصى.
والصلاة لما لها من الأثر العظيم البالغ في تهذيب النفوس وتقويم السلوك وفي تقوية الإيمان؛ فرضها الله على الأنبياء والأمم السابقة، فلم تخل منها شريعة من الشرائع، وقد حكى القرآن وصاة الله بها لأنبيائه وأقوامهم، فقد دعا إبراهيم أبو الأنبياء ربه فقال:﴿ربّ اجعلني مقيم الصّلاة ومن ذرّيتي﴾ (إبراهيم:40)، فاستجاب الله دعاءه فكان ابنه إسماعيل من المصلين ﴿وكان يأمر أهله بالصّلاة والزّكاة وكان عند ربّه مرضيّاً﴾ (مريم: 55).
ومن بعدهما خاطب الله نبيه موسى عليه السلام فقال:﴿إنّني أنا اللّه لا إلـه إلا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري﴾ (طه: 14)، وأوصى العذراء البتول بالصلاة فقال: ﴿يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الركعين﴾ (آل عمران: 42)، وبيَّن المسيح عليه السلام أمر الله تعالى له بالصلاة، فقال وهو في المهد:﴿إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً ^ وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصّلاة والزّكاة ما دمت حيّاً﴾ (مريم: 30-31).
وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يحافظوا على الصلاة﴿وإذ أخذنا ميثـاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتـامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة﴾ (البقرة: 83).
ومن بعدهم جاء نبينا يدعو إلى ما دعا إليه إخوانه الأنبياء من تعظيم الله وعبادته والصلاة له، وقد أمره الله بها، فقال:﴿وأمُر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها﴾ (طه: 132)، وامتدح الله في وحيه إليه عباده المصلين فقال:﴿الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ^ أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ (لقمان: 4-5)، ووعدهم بالجنة جزاء عليها: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون ^ أولئك هم الوارثون ^ الّذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون﴾ (المؤمنون: 9-11).
وما زال النبييوصي بالصلاة لله وعبادته حتى فاضت روحه إلى باريها، يقول خادمه وصاحبه أنس: كان آخر وصية رسول الله وهو يُغرغر بها في صدره، وما كان يفيض بها لسانه: ((الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)). ([1])
وحين شرع الله الصلاة وغيرها من العبادات؛ فإنه تبارك وتعالى لم يكن يستكثر بها من قلة، ولا يستقوِ بها من ضعف، فهو عز وجلّ لا تزيده طاعة الطائعين، ولا تنقصه معصية العاصين، وإنما شرعها لمنفعة العباد وتزكية أنفسهم وتهذيب ضمائرهم وتقويم سلوكهم وصلاح دنياهم وأخراهم.
وأول ما تحققه الصلاة في المؤمن أنها تنير حياته وتؤنسها بذكر الله، فقد وصفها النبي بأنها نور، فقال: ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة)). ([2])
وقال: ((والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء)). ([3])
وقوله : ((والصلاة نور)) معناه: أنها تمنع المصلي من المعاصي، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتهديه إلى الصواب كما النور الذي يستضاء به.
فأما اجتناب المسلم للكبائر من الذنوب والفواحش، فسببه أن الصلاة تذكره - فينة بعد فينة -بحق الله عليه وبمراقبته له، فيرعوي وينزجر عن محارمه، قال تعالى: ﴿اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون﴾ (العنكبوت: 45).
ولما أُخبر النبيعن رجل يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إنه سينهاه ما يقول)). ([4]) أي في صلاته ما سيزجره ويقوِّم سلوكه.
وكما تبعد الصلاة المؤمن عن الكبائر والفواحش؛ فإنها سبب في مغفرة الله للصغائر من الذنوب التي يلم بها المرء عامداً أو جاهلاً، فيعود بصلاته قريباً من الله العفو الكريم، لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، فقد كان يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهنَّ؛ إذا اجتنب الكبائر)). ([5])
وفي حديث آخر سأل النبي أصحابه: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟)) فقالوا: لا يبقى من درنه شيء، فقال : ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). ([6])
والصلاة فرصة للمسلم للاستجمام من أتعاب الدنيا، فالمسلم حين يقوم للصلاة يناجي ربه ومولاه؛ يطمئن قلبه بهذه الصلة مع ربه﴿الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ (الرعد: 28)، لذلك كان يقول لمؤذنه بلال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)). ([7]) وكان يفزع إليها كلما حزبه أمر، ويقول: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)). ([8])
وأخيراً؛ فلأهمية هذه العبادة سماها النبي عمود الدين، وأخبر أنها أول ما يحاسب الله الناس عليه يوم القيامة، فقال: ((إنّ أول ما يُحاسبُ به العبدُ يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر)). ([9])
-----------------
الركن الثالث : إيتاء الزكاة
يتقلب الناس في هذه الدنيا في نعم الله التي آتاهم، ويستمتعون فيها بما منحهم الله من المال والسعة واليسار الذي به تزدان الحياة وتزهو.
وحتى يسعد الجميع في أرض الله؛ فإن الله جعل النصيب الأوفر من رزقه لبعض الناس ابتلاء واختباراً، وأوجب لإخوانهم من الفقراء والمساكين وغيرهم حقاً معلوماً في أموال الأغنياء التي آتاهم الله إياها﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ (النور: 33)، وهذا الحق المعلوم هو الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
وما يدفعه المسلم من ماله فإنما هو طهرة له من ذنوبه وآثامه، وهو سبب في تزكية نفسه وسموها في معارج الطاعة﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ (التوبة: 103).
وأما الامتناع عن أداء الزكاة فهو خيانة لحق الفقير، يتوعد الله فاعله بأليم العذاب:﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليمٍ ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون﴾ (التوبة: 34-35).
وفي الحديث أن النبي قال: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار)). ([1])
وكما أوجب الله هذا الحق؛ فإنه بيَّن أنصبته ومقاديره والأموال التي يجب فيها، ولم يترك الأمر إلى أذواق الأغنياء وسعة إحسانهم﴿والذين في أموالهم حق معلوم ^ للسائل والمحروم﴾ (المعارج: 24-25).
وقد راعى الإسلام في مقدار الزكاة مصلحة الغني والفقير، فالغني إنما يدفع 2.5% فقط من أمواله النقدية وتجاراته التي مر عليها عام وهي في حوزه، أي هي مما زاد عن حاجاته ومصروفاته، فهذا هو الحق المعلوم، وأما ما عداه فهو الصدقات غير الواجبة التي يستبق بها المسلمون إلى محبة الله وعظيم رضوانه.
وأما الأموال التي أوجب الله فيها الزكاة فهي الذهب والفضة وما يقابلهما من النقود والأسهم والتجارات، وكذلك ما يعطيه الله للمسلم من زروع وثمار وأنعام﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض﴾ (البقرة: 267).
وأما المستحقون لأخذ الزكاة فهم أصناف ثمانية، جمعتهم الآية القرآنية:﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيمٌ﴾ (التوبة: 60).
وأداء الزكاة ينبغي أن يصان بضوابط أخلاقية عالية تجعل من هذا الإنفاق عبادة سامية لله لا يخالطها كِبر ولا استعلاء ولا مِنَّة على الفقير، فقد وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذًى والله غني حليمٌ ﴾ (البقرة: 262-263).
والمسلم يقصد بصدقاته وزكاته مرضات الله وجميل ثوابه، وأما المنفق للسمعة والمفاخرة فإن نفقته مردودة عليه ، لا بل هو متوعد بالعذاب في الآخرة، ففي الحديث عن النبيأن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، فذكر منهم رجل تصدق لا ليرضى عنه الله، بل ليقال عنه جواد([2])، وهو ما يحبط هذه العبادة، ويوجب العقوبة عليها بدلاً من المثوبة ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون﴾ (هود: 15-16).
إن هذه الشرعة الربانية صورة من صور التراحم والتلاحم، تحفظ للمجتمع وحدته وتحقق تماسكه، حتى يكون الجميع فيه كالجسد الواحد، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). ([3])
--------------------
الركن الرابع : صوم رمضان
الصيام هو رابع أركان الإسلام، وهو عبادة فرضها الله في شهر رمضان([1])، وفيه يمتنع المسلم عن الطعام والشراب والجماع ومقدماته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والصيام فرضه الله على المسلمين وعلى الأمم قبلهم لغاية عظيمة، يجليها قول الله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ (البقرة: 183)، فغاية هذه العبادة تدريب المؤمن على حياة التقوى واجتناب المناهي، وتربيته على السيطرة على إرادته وضبطها، وعدم الانسياق وراء الرغبات الجسدية، وتحريره من أسر الشهوات والعبودية للملذات، فالمسلم الذي يترك في نهار رمضان الحلال من الطعام والشراب والمتع؛ فإنه من باب أولى يمتنع عن الحرام منها في ليل رمضان وفي سائر الأيام والليالي.
وقد أخبر النبيبأثر الصيام في ضبط الغرائز بقوله: ((من كان منكم ذا طول فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا فالصوم له وجاء)).([2])
ويصف النبي الصيام بأنه وقاية للمسلم، بما يحتمه عليه من معاني فاضلة وأخلاق سامية: ((والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).([3])وفي حديث آخر: ((الصوم جُنة ما لم يخرقها)). ([4])
وقد فقه الصحابي جابر بن عبد الله قول النبي فقال: (إذا صُمتَ؛ فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صيامك سواء). ([5])
وأما إذا لم يعطِ الصيام ثمرته السلوكية فقد أضحى عملاً ميتاً لا روح فيه، وقد قال رسول الله : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). ([6])
وهذا العمل الذي لا روح فيه لا يؤجر المسلم عليه ((رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر)). ([7])
ومما يتعلمه المسلم في مدرسة رمضان تحسس مشاعر الفقراء
الي كل من اراد ان يعرف الحقيقة
العبادة و الأخلاق
ومن أهم ما بعث الله الأنبياء من أجله؛ تزكية عباده وتحليتهم بالخُلق الحسن والسلوك الأقوم، وقد امتن الله على البشرية بمحمد الذي دعا إلى تزكية نفوسهم وخلوصها من عيوبها وآفاتها﴿لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آيـاته ويزكيهم ويعلمهم الكتـاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (آل عمران: 164).
فتزكية النفوس بالأخلاق الفاضلة هدف رئيس في بعثة الأنبياء ، ومنهم محمد القائل: ((إمنا بعثت لأتمم صالح الأخلاق)). ([1])
وقد قدم القدوة الحسنة لأصحابه حين تمثل جميل الأخلاق وصفات الكمال، ممتثلاً ما يوحي الله إليه في القرآن ، فكان في خُلقه كما وصفه ربه ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم: 4)، وصادقت على هذا الوصف زوجه عائشة فقالت: (كان خلقه القرآن)([2]) ، وأكده صاحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بقوله: لم يكن النبي فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)).([3])
إن الأهمية البالغة للأخلاق جعلت النبي يربط خيرية المسلم عند الله بحسن الخلق الذي يثقل في الميزان حسنات المؤمن ويحببه إلى الله، فقد قال : ((ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء))([4])، فحسن الخلق يحسب للعبد في ميزانه بمثابة عبادتي الصوم والقيام لله في الليل، وهما من أفضل العبادات وأرفعها في ميزان المسلم، يقول : ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).([5])
ووفق هذه الحيثية فإن حسن الخلق أوسع باب يوصل إلى الجنة، ولما سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).([6])
إن صاحب الخلق الحسن ليس في الجنة فحسب، بل هو في أعلاها، ففي الحديث عن رسول الله أنه قال: ((أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).([7])
وأعلى الجنة هو جزاء الله للأنبياء، فينعم صاحب الخلق الحسن برفقتهم كما قال : ((إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون).([8])
وهذه الأهمية للأخلاق تنبع من كونها جزءاً من الإيمان، فلا يكمل إيمان المسلم إلا بالتزامه بها، ولا يزهر إيمانه إلا بمقدار ما يتحقق فيه منها، فإذا نقصت أخلاق المرء نقص إيمانه، وإن زادت زاد، يقول أنس بن مالك: ما خطبنا نبي الله إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ([9])، وكان يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبلأخيه ما يحب لنفسه)).([10])
وكان يقول: ((خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق)).([11])
والأخلاق الفاضلة التي صانها الإسلام وتعبَّد المسلمين بتمثُلِها كثيرة، وليس بأقل منها ما حذر منه من أخلاق مستقبحة مستبشعة، ونكتفي بإيراد بعض النصوص المتحدثة عن الأخلاق، فلعله يغني عن الكثير من الشرح والتطويل:
قال تعالى: ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل: 90).
وقال:﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ (الأنفال: 27).
وقال: ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً﴾ (النساء: 58).
وقال:﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ (التوبة: 119).
وقال:﴿ الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار﴾ (آل عمران: 17).
.......................................................................................................................................
مراتب الاحكام التكليفيه
وتدور تشريعات الإسلام بمناحيها المختلفة في خمس مراتب من جهة إلزاميتها:
أولاهاالفروض والواجبات، وهي ما طلبه الله ورسوله من الطاعات على جهة الإلزام، فالمطيع فيها مثاب مأجور، والعاصي مأزور، ومن ذلك الصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الخلق والتوبة من الذنوب وكسب المال من الحلال والإنفاق على الزوجة والأولاد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعاون مع الآخرين على أعمال البر والتقوى، وكذلك حجاب المرأة من الرجال الأجانب عنها.
والثانيةهي السنن المستحبة، وهي ما طلبه الله ورسوله على جهة الندب والاختيار، لا الأمر والإلزام، فيأجر الله المطيع فيها، ولا يؤاخذ المقصر، لكن الإتيان بالمستحبات برهان على محبة العبد لربه وتشوقه إلى طاعته ومرضاته، فيقابل الله صنيعه بمحبة العبد وتوفيقه، فقد روى النبي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).([1])
والسنن المندوب إليها باب واسع من أبواب الخير، ومنه التنفل في العبادات بالصوم في غير رمضان، والصلوات - غير الصلوات الخمس - والإحسان إلى الفقراء والأيتام والمحتاجين في غير الزكاة الواجبة، وزيارة المريض، وكثرة الاستغفار، وذكر الله، والتطوع في المشاركة في الخدمات العامة.
والثالثةهي المباحات التي لا يترتب عليها جزاء أخروي بالثواب أو العقاب، كالطعام والشراب والنوم والبيع والشراء والزواج، ولكن هذه وأمثالها من السلوكيات اليومية تصبح عبادة مأجورة إذا اقترنت بنية صالحة واستحضار قلبي مشروع ، فترتفع العادات إلى منزلة العبادات، ويوضح ذلك قول النبي عن إتيان الرجل أهله بنية الاستعفاف عن الحرام: ((وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً)).([2])
والرابعةهي المكروهات التي لا يليق بالمسلم التلبس فيها، لكنها مما يعفو الله عنه ولا يحاسب عليه، ومن ذلك التشاغل عن ذكر الله بالإغراق في الدنيا، والإكثار من المباحات، والتهاون في الآداب الإسلامية للطعام والشراب والحديث والزيارة.
والخامسةهي المحرمات التي يثيب الله على تركها ويعاقب على فعلها، كالشرك والفواحش والمعاملات القائمة على الربا والغش والاحتيال والاستغلال﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ (الأعراف: 33).
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ﴾ (الأنعام: 151-152).
-----------------------
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها
إن المفهوم الإسلامي للعبادة قد تجسد في الشريعة الإسلامية العظيمة، التي أمر الله المؤمنين بتحقيقها في الأرض وجعلها دستوراً لحياتهم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ﴿ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ (الجاثية: 18)، فالشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعاً إلى قيام الساعة.
أولاً: خصائص الشريعة الإسلامية
وتمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص، أهمها:
أ. ربانية المصدر والغاية
أول خصيصة للشريعة الإسلامية أنها ربانية المصدر والغاية، فهي من الله ، وتهدف إلى بلوغ رضاه، فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين، هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله بحروفه، ثم السنة النبوية، وهي أقوال النبي وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله تعالى: ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾(الحشر: 7)، فالنبي يحمل رسالة الله إلى الناس، وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله وأمره ﴿ وما ينطق عن الهوى ^ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ (النجم: 3-4).
ومن هذين المصدرين وتأسيساً على قواعدهما اشتق العلماء عدداً من المصادر الفرعية للشريعة كالإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والعرف وغيرها.
والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى خصائصه تبارك وتعالى ﴿ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ (الأعراف: 54)، فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده.
ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق الله بالتشريع، وهو استعباد لخلق الله، لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي سمعه يقرأ قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ (التوبة: 31)، فاستغرب عدي ، حتى فسَّره النبي بقوله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) ([1])، فعبادتهم لأحبارهم، ليس سجودهم وركوعهم لهم، بل الإذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع الله.
وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شرَّع بحكمته البالغة للإنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها ﴿ كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ (إبراهيم: 1)، وشريعته خير كلها، لأنها صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور الإنسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية، كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية.
أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها لا تحابي في أحكامها جنساً أو عرقاً أو لوناً، فالجميع عبيد لله متساوون أمام أحكامه ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ^ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون﴾ (المائدة: 48-50).
إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة وسلطاناً في النفوس والضمائر لا تجده في قانون ما، فالناس منقادون إليها بسلطة الإيمان الذي يملأ قلوبهم، منقادون إليها ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يلتزم حدودها، طمعاً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة، ثم هو موعود بحسن الجزاء في الآخرة، بالجنة التي أعدها الله للأتقياء من عباده، فلأجلهما معاً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به.
وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعزمت على تحريمه، وأصدرت تشريعاً بذلك، ثم بذلت الملايين لتنفيذ هذا القانون، وبعد سنوات من النفير في الأمن والمحاكم ، وبعد سجن الألوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر، مع يقينها بما فيه من الفساد، لكنها عجزت وعجز قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولاً.
وفي مقابله فإن الإسلام حين حرم الخمر، لم يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم، ولم يجد عنتاً ولا مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات الإنسانية، بابتعاده عن المسكرات بأنواعها، إن طهارة المجتمع من هذه الآفة لم يتطلب سوى آية أنزلها الله في تحريمه، وهي قوله: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ (المائدة: 90).
فالتزم أصحاب النبي بذلك، بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل تحريمها، يقول أنس بن مالك: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال أنس: فخرجتُ، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.
قال أنس: فجرتْ في سِكك المدينة.
فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ (المائدة: 93)([2])، أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لأنه لا عقوبة إلا بتشريع.
-------------------
ب). العدل والمساواة
العدل اسم من أسماء الله تعالى، وهو صفة لازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر عدل الله في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ (البقرة: 286)، فشرائع الله مبناها على اليسر والسهولة ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة: 185) ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ (المائدة: 6)، والنبي (ص) يقول: ((أحب الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحةُ)).([1])
ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن الأطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل الذي يجيز محاسبتهم، كما أسقطه عمن حُرِم نعمة العقل ابتداءً ، يقول (ص): ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))([2])، كما يعفو الله عمن وقع في الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرهاً أو ناسياً تحريمه، فقد قال (ص): ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).([3])
وإذا كانت الشريعة لا تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها - من باب أولى - لا تحاسبه على ذنب غيره، فالمرء مسؤول عن عمله الشخصي ﴿قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيءٍ ولا تكسب كل نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ (الأنعام: 164).
وعليه فالإسلام لا يقر بالذنب الأصلي المتوارث عن الأبوين [آدم وحواء]، فالأبوان تحملا وزريهما بنفسيهما، واستغفرا الله منه، فتاب عليهما، ولا علاقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد، بل كلٌ مسؤول عن عمله ﴿فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ^ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة: 37-39).
وأيضاً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت - لعدالتها - الفروق بين الذكر والأنثى، فلم تكلف المرأة بما لا يلائم طبيعتها كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب والإنفاق، وغيرهما مما لا يتناسب وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها.
ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، فالجميع متساوون أمام شرائع الله، فقد خطب النبي (ص) في ما يربو على مائة ألف من أصحابه، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى))([4])، فالخيرية مبناها على العبادة والاستقامة، لا الحسب والجاه، ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
وقد طبَّق النبي (ص) بنفسه عدل الإسلام وقِيَمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع، فقد حكم (ص) على سارقة من أشراف قريش بقطع يدها الخؤون، فاستشفع الناس لها، طلبوا من أسامة بن زيد - بما له من مكانة عند النبي (ص) - أن يشفع لها عنده، فقال له (ص): ((أتشفع في حد من حدود الله)).
ثم قام فخطب الناس، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ [أي ابنته (ص)]؛ لقطعتُ يدها)).([5])
وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به وشرعه بين خلقه﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل: 90).
--------------------------
ج. الشمول والتوازن
لما كان الإسلام رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة، فإن الله تلطف فيه على الإنسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها، فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ (المائدة: 3).
والإسلام بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة المختلفة، فهو دين عبادة، وهو أيضاً منظومة من الشرائع الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم الآخرة.
إن الإسلام ينظم علاقات الإنسان المختلفة من لدن ميلاده إلى وفاته، وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميلاد وما بعد الوفاة، وأما ما بينهما فإنه يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات وآداب، وهو يرشِّد أيضاً علاقة الإنسان مع أسرته ومجتمعه، لا بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ﴿وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ﴾ (الأنعام: 38).
أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع الإسلام تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم، وتنظم علاقة الدولة والأمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين﴾ (النحل: 89)
.
وتلبي هذه الشرائع حاجات الإنسان المختلفة، فهي تعنى بجسده، ولا تهمل روحه، تبتغي الآخرة، ولا تفرط في الدنيا، تربط المجتمع ولا تغفل مصالحه، وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس مصالحه وحقوقه، توازن عجيب، لا إفراط فيه ولا تفريط، وأي عجب ، فذلك تقدير اللطيف الخبير.
إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ (القصص: 77) فلئن كانت الآخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة والمعاش، ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ولا تقتير يمنع النفع: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً﴾ (الفرقان: 67)، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً﴾ (الإسراء: 29).
وقال صلى الله عليه وسلم موجهاً عثمان بن مظعون لما رغِب في ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد، فأراد هجر النوم والنساء والدوام على الصيام: ((يا عثمان أرغبتَ عن سنتي؟.. فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)).([1])
وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ^ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون﴾ (الجمعة: 9-10).
ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدواإن الله لا يحب المعتدين﴾ (المائدة: 87).([2])
----------------------
د. المثالية الواقعية
كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع ، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).([1])
وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.
واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً﴾ (النساء: 130).
ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى: ﴿ وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ﴾ (الشورى: 40-41).
وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون﴾ (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.
ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ (النساء: 43).
لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر رضى الله عنه الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). ([2])
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).([3])
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."([4])
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً : مقاصد الشريعة الإسلامية
وتهدف الشرائع الإسلامية في جملتها إلى تحقيق ما يصلح أحوال الإنسان في الدنيا ويسعده في الآخرة، وفق قاعدة درء المفاسد عنه وجلب المصالح له، فما تأمر الشريعة بأمر إلا وفيه خير للإنسان، وما حرم فيها من شيء إلا وفيه ضرر عليه ﴿ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ (البقرة: 222).
والشريعة جاءت تفصيلاتها لحفظ مقاصد خمسة (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وهي في حقيقتها أهم حقوق الإنسان ومصالحه في هذه الحياة:
أ. حفظ الدين
لما كان الدين المقوِّم الأعظم الذي يهيمن على مجالات الحياة الإنسانية كان من الطبيعي أن تسعى شرائع الإسلام إلى حفظه ، باعتباره حقاً للإنسان، بل هو أغلى الحقوق وأهمها، وذلك بتشريع كل ما يساعد على حفظه والنهي عن كل ما يضر به ويضعفه أو يقضي عليه.
فقد حث القرآن على عبادات كثيرة تثبت الإيمان وتحرسه في صدور المؤمنين، بعضها ذهني فكري كالتفكر والتدبر في خلق الله للاستدلال على عظمة الخالق، وبعضها ذهني بدني كالصلاة، أو بدني الصيام، أو مالي كالزكاة والصدقة، أو ذهني مالي بدني كالحج.
ولحراسة الإيمان والدين حرَّم الله الشرك اعتقاداً وعملاً ، كما حرَّم ما يفضي إليه كالغلو بالأنبياء والصالحين، واعتقاد وجود وسطاء بين الله وعبيده، واعتقاد النفع والضر لغير الله.
كما أوجب الله على المجتمع والدولة حماية الدين وتسهيل سبل التدين والتشجيع عليه، وكذلك فإن من الواجب عليها الذود عنه ومنع سبل الغواية والإغراء بالفسق والعصيان والكفر، بالأخذ على يد المضلين المفسدين، وتطبيق العقوبات الشرعية على المرتدين.
ب. حفظ النفس الإنسانية
الحياة الإنسانية هبة الله للإنسان، وليس لأحد أن يعتدي على هذا الحق، ولا الإنسان نفسُه، فالله خلق الإنسان وكرمه، ليحقق واجب الاستخلاف في الأرض وعمارتها، وليبتليه ويظهر مدى تحقيقه العبودية لله رب العالمين.
ولأجل ذلك صان الإسلام الوجود الإنساني بما شرعه من شرائع تكفله وتحفظه، فأوجب على المجتمع رعاية الضعيف وتأمين ضرورياته من سكن وطعام وشراب ولباس، وغيرها من ضروريات الحياة، وشرع في تأمين ذلك الزكوات الواجبة والصدقات المندوبة التي تندرج ضمن منظومة واسعة من شرائع التعاون على البر والتقوى بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بغية تحقيق التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.
وكفل الإسلام الحياة الكريمة للإنسان، فحرم إهانته وإيذاءه ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً﴾ (الأحزاب: 58).
واعتبر الإسلام الاعتداء على النفس الإنسانية من أقبح الجرائم، وعدَّه من الموبقات السبع التي تفسد الدين والدنيا، فقد قال
صلى الله عليه وسلم) ) محذراً منها: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).([1])
ولعظم الاعتداء على النفس الإنسانية جعل الله الاعتداء على نفس واحدة بمثابة الاعتداء على الجنس البشري برمَّته ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون﴾ (المائدة: 32).
وتوالت الآيات تصف المؤمنين بأنهم يجتنبون قتل الأبرياء الذين يسميهم القرآن بـ (النفس التي حرم الله): ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً﴾ (الفرقان: 68).
تتهدد الآيات من يعتدي على الأبرياء، وتعطي لولي المظلوم حق المطالبة بالقصاص العادل من خصمه ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً﴾ (الإسراء: 33).
وسلطان القصاص العادل هو أحد أهم الضمانات التي تمنع تفشي الجريمة، فيرعوي المجرم عن عتوه؛ ليقينه بأن اعتداءه بالقتل على الآخرين مستوجب إزهاق نفسه، فيأمن الجميع ويستمتع الجميع بحقهم في الحياة ﴿ ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلكم تتقون ﴾ (البقرة: 179).
وصوناً لهذا المبدأ العظيم (حفظ النفس) شرع القرآن الجهاد في سبيل حماية المستضعفين من الاضطهاد والقتل، فقال تعالى: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ^ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ﴾ (النساء: 75-76).
ولن يفوتنا -أن نذكر هنا -أن أول نفس حرم الله الاعتداء عليها نفس الإنسان التي هي وديعة عنده، وتفريطه فيها بالانتحار أو التساهل في صونها يعرضه لأليم العذاب في الآخرة، فقد قال
(صلى الله عليه وسلم) : ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سُمَّاً فقَتل نفسه؛ فسُمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يديه يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).([2])
ج. حفظ العقل
العقل أهم خصائص الإنسان التي بموجبها فضّل الله الجنس الإنساني على سائر المخلوقات ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً﴾ (الإسراء: 70).
ويعتبر الإسلام العقل مناط التكليف في سائر المسؤوليات الدينية والدنيوية، إذ به يهتدي الإنسان إلى الحقائق الكبرى التي دعا الله إلى الوصول إليها بالبراهين العقلية، لا بمجرد الإيمان الأعمى : ﴿أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾ (الأنبياء: 24)، فالعقل يرشد كل من تدبر في الكون المنظور إلى وجود الله وصفاته ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ (آل عمران: 190).
ولا يجوز للمرء تغييب العقل عن أداء واجبه في الدلالة على الحق والخير وتبصير الإنسان فيما يصلح له دنياه وأخراه، ولأجل ذلك حرم الله السحر والشعوذة والكهانة وغيرها مما يتلاعب بالعقل ويزدريه ويعطل طاقاته، ولأجل ذلك أيضاً حرم الإسلام الخمر، واعتبرها دنساً شيطانياً وكيداً منه للإنسان، يريد به إفساد علاقة الإنسان بربه بشغله بالخمر عن الصلاة والعبادة، كما يصبو بواسطتها إلى تدمير العلاقات الاجتماعية ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾ (المائدة: 90-91).
د. حفظ النسل
التناسل وسيلة بقاء النوع الإنساني ، ولأجله ركَّب الله الغريزة في الجنسين، ودعاهما إلى إقامة الأسرة عن طريق الزواج الذي يعتبره الإسلام المحضن الذي يحقق حفظ النسل، ويديم المسيرة الإنسانية السوية.
وقد رغَّب الإسلام في النكاح، ووضع ضوابطه ومتطلباته عبر نظام اجتماعي محكم ينظم العلاقة بين الزوجين خصوصاً، وأبناء الأسرة عموماً.
ويُلزم الإسلام الأبوين بجملة من الواجبات تجاه أبنائهما، منها حسن تربيتهم وتعهدهم بالحنو والرعاية والإنفاق وغيرها من مقتضيات الأبوة والأمومة السليمة.
وحرم الإسلام أشد التحريم الاعتداء على الطفل بوأده أو إجهاضه ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خِطئاً كبيراً﴾ (الإسراء: 31).
وصوناً للأسرة ورعاية لأفرادها حرَّم الله الزنا والفواحش عموماً ﴿ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً﴾ (الإسراء: 32)، وحرم أيضاً ما يؤدي إلى هذه الفواحش من اختلاط الرجال بالنساء، كما ألزم المرأة بالحجاب حال بروزها أمام الأجانب درءاً للفتنة، فالمرأة في الإسلام جوهرة مصونة عن العبث والابتذال ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً﴾ (الأحزاب: 59).
هـ. حفظ المال
المال قوام الحياة، والإسلام يعتبر ما يتداوله الناس مالَ الله الذي استخلف عليه الإنسان، وشرع له تكسبه وحيازته من الطرق المشروعة ، كما أمره أن ينفقه ضمن حاجاته وحاجات مجتمعه من غير إسراف ولا تقتير.
وقد حث الإسلام على العمل والإنتاج واكتساب المال بالطرق المشروعة ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾ (الملك: 15)،
ورغب(صلى الله عليه وسلم)
بالعمل واعتبره من القربات إلى الله، فقال: ((ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده، وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة)).([3])
ولما مر رجل على النبي(صلى الله عليه وسلم)؛ رأى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من جَلَده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله: لو كان هذا في سبيل الله؟، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ((إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)).([4])
لكن الكسب نوعان: طيب وخبيث، فالطيب هو الرزق الذي يكتسبه المرء بوسائل الكسب المشروعة كالتجارة والصناعة والزراعة والوظائف العامة والخاصة ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون﴾ (البقرة: 172).
وأما الخبيث من الكسب فهو حيازة المال بالطرائق الملتوية كالربا والرشوة والغش والغبن والحيلة أو المتاجرة بالسلع الضارة للإنسانية ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون﴾ (البقرة: 188).
وللإسلام قاعدة جامعة في هذا الشأن ﴿ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾ (الأعراف: 157)، فكل كسب للمال لا يؤذي صاحبه ولا الآخرين فهو حلال طيب، وكل ما عداه حرام خبيث.
وكذا يوجه الإسلام إلى المصارف الصحيحة للمال، فامتلاك الإنسان للمال لا يسوغ له إنفاقه كيفما اتفق، فالإسراف والتبذير في إنفاق المال، والتقصير في إخراج حقوق الفقراء عمل شيطاني بغيض ﴿وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً ﴾ (الإسراء: 26-27)، وقال (صلى الله عليه وسلم): ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال))([5])، فهذا المال عطية الله، وقد استخلفنا عليه لننفقه في الأوجه المشروعة، وأعظمها الصدقة على الفقراء والمساكين ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ (النور: 33)، ﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كبيرٌ[ (الحديد: 7).
وهكذا فهذه الضرورات الخمس التي تمثل أهم حقوق الإنسان في الحياة تدور على حفظها سائر تشريعات الإسلام، فمن التزمها أكرمه الله بالسعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ومن تنكبها شقي في الدنيا بمقدار ما أعرض عن هدي الله وناموسه العادل والكامل ﴿فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ^ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ^ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ^ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ (طه: 123-126).
-------------------------
أركان الإيمان
الإيمان هو المرتبة التي يسمو إليها المسلم بعد إسلامه، فيرنو إلى الارتقاء بإسلامه إلى مرتبة الإيمان، فلا يقف في دينه عند عتبة العبادات الظاهرة، بل يترقى في كمالات الإيمان بمقدار ما يتمثل في سلوكه من شُعَبِه التي تشمل الاعتقاد والعبادة والأخلاق، قال (صلى الله عليه وسلم): ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)). ([1])
وأما أركان الإيمان فهي ستة يوضحها حديث جبريل حين سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الإيمان فأجاب النبي (صلى الله عليه وسلم): ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).([2])
وهكذا فأول الإيمان أن ينعقد قلب المسلم على التصديق بهذه المسائل الست، ثم يبرهن بعمله على صحة إيمانه بها، فالإيمان اعتقاد وقول وعمل، ويزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ولما كنا قد تحدثنا عن الأولى منها، وهي الإيمان بالله، نشرع بذكر بقية الأركان.
-------------------------
الإيمان بالملائكة
الملائكة مخلوقات نورانية فريدة، خلقها الله من نور، فقد قال (صلى الله عليه وسلم ): ((خلقت الملائكة من نور))([1])، وهم جند الله الذين لا يعرف عددهم إلا هو ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر﴾ (المدثر: 31).
وبسبب طبيعتهم النورانية اللطيفة فإن الملائكة يقدرون على التشكل في هيئة أجسام كثيفة، كصورة البشر، فقد ظهرت الملائكة بصورة بشرية لإبراهيم ثم لوط ، وكذا ظهر الملاك جبريل لمريم عليها السلام على صورة رجل: ﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ^ قالت إني أعوذ بالرحمـن منك إن كنت تقياً ^ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً﴾ (مريم: 17-19).
وهذه الصورة البشرية في الظهور الملائكي يأنس لها قلب الإنسان، لذا كثيراً ما نزل بها جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم ) ، فقد سأل الحارث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ): ((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملَك رجلاً، فيكلمني فأعي ما يقول)).([2])
والملائكة عباد لله مكرمون مفطورون على عبادة الله بلا كلل ولا فتور، فهم ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء: 20)، وكذلك فإنهم لا يسأمون من عبادة الله ﴿يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسـئمون﴾ (فصلت: 38).
لقد استحقوا وصف الله لهم بالكرام البررة (عبس: 16)، فهم ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ (التحريم: 6).
وللملائكة أفعال تختص بالإنسان، منها مرافقة الإنسان في حياته وتسجيل أعماله، والشهادة عليه بما صنعه يوم القيامة ﴿وإن عليكم لحـافظين ^ كراماً كـاتبين ^ يعلمون ما تفعلون﴾ (الانفطار: 10-12)، فالملائكة تسجل عليه سائر أقواله وأفعاله: ﴿إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ^ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ (سورة ق: 17-18)، ومعرفة المؤمن بمعية الملائكة له أدعى في الحياء منهم أن يسجلوا عليه سيئة وهم الأبرار الذين لا يفترون من عبادة الله.
والملائكة جند الله المنفذون لأوامره وحكمه في أعدائه، فينزلون العقوبة بالمجرمين المستحقين لعذاب الله، كما أرسلهم الله لعذاب قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
ومن وظائف الملائكة قبض الأرواح التي ختم الله آجالها ﴿وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظةً حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون﴾ (الأنعام: 61)، ﴿قل يتوفـاكم ملك الموت الذي وُكِّل بكم ثم إلى ربكم ترجعون﴾ (السجدة: 11).
والملائكة يحبون ما أحبه الله، فيحبون المؤمنين والاتقياء من عباد الله، ويستغفرون لهم، قال الله تعالى: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كـل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم﴾ (غافر: 7).
وقال (صلى الله عليه وسلم ): ((فإذا صلى [أي المؤمن] لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه)).([3])
ويتواصل استغفار الملائكة ليشمل جميع المؤمنين كما قال الله: ﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم﴾ (الشورى: 5).
وأما من كفر وعصى فالملائكة تدعو عليه باللعنة ﴿إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ (البقرة: 161).
فإذا قامت القيامة استقبلت الملائكة المؤمنين في الجنات، وساقت المجرمين والكافرين إلى الدركات، فعن استقبالهم للمؤمنين وتهنئتهم إياهم يقول الله تعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ ^ سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾ (الرعد: 23-24)، وأما الكافرون فتعذبهم الملائكة في نار ﴿وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ (التحريم:6).
-----------------------
الإيمان بالكتب
ولما كانت وظيفة الرسل حمل الهداية الإلهية إلى البشرية فقد أنزل الله عليهم هديه ووحيه، ليستنقذ به البشرية من ضلالها وتيهها ﴿كان الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتـاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ (البقرة: 213).
وهذه الكتب الإلهية تحمل رسالة الله إلى الإنسان، وتبعاً لذلك فهي تتصف بصفات منزلها، فهي الهدى والنور، وقد وصف الله توراته التي أنزلها على موسى بقوله: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور﴾ (المائدة: 44)، ومثله قال في وصف الإنجيل الذي أنزله على عيسى عليه السلام: ﴿وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظةً للمتقين﴾ (المائدة: 46)، وهكذا فالهدى والنور صفة لازمة لكل وحي يوحيه الله إلى نبي من أنبيائه.
والمسلم يؤمن بكل وحي لله امتثالاً لأمر الله وتصديقاً لكلامه: ﴿يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتـاب الذي نزل على رسوله والكتـاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً﴾ (النساء: 136)، فالكفر بأحد كتب الله هو كفر بها جميعاً.
ويأمر الله نبيه والمؤمنين به، فيقول: ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (البقرة: 136). (وانظر آل عمران: 84).
وقد أمر الله جل وعلا الأمم السابقة بحفظ ما أنزل الله إليهم من كتاب، كما قال سبحانه: ﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء﴾ (المائدة: 44)، فأضاعها الأولون، ولم يكونوا أمناء عليها، فصارت نهبة للتحريف والتبديل ، فتعرضت للزيادة، حين أضيف إليها ما لم ينزله الله ﴿وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتـاب لتحسبوه من الكتـاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾ (آل عمران: 78).
وقد توعد الله بعذابه الذين فعلوا ذلك: ﴿فويل للذين يكتبون الكتـاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾ (البقرة: 79).
كما تعرضت هذه الكتب للنقصان والضياع المتعمد الذي توعد الله أيضاً فاعله بأليم العذاب فقال: ﴿إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتـاب ويشترون به ثمناَ قليلاً أولـئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيـامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم﴾ (البقرة: 174).
ومما ضاع من الكتب السابقة؛ الإنجيل([1]) الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام
مواضيع مماثلة
» العنصرية في الاسلام
» الامام حسن البنا - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين
» صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين
» الامام حسن البنا - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين
» صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى